الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرئ: {أن} بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعًا والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر، بل لأن العزة على صريح التعليل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واثقًا بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها. ثم أكد الوعد بقوله: {هو السميع العليم} يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم.ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال: {ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض} فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك، فذكر أن العقلاء المميزين- وهم الملائكة والثقلان- كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكًا له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون ندًا له.ثم أكد هذا المعنى بقوله: {وما يتبع} ما نافية ومفعول: {يدعون} محذوف أي ليس يتبع: {الذين يدعون من دون الله شركاء} شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال. وإنما حذف أحد المكررين للدلالة، فالأول مفعول: {يدعون} والثاني مفعول: {يتبع} ويجوز أن تكون ما استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون. و: {شركاء} على هذا نصب ب: {يدعون} ولا حاجة إلى إضمار. ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم. ثم زاد في التأكيد فقال: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} وقد مر مثله في سورة الأنعام. ثم ذكر طرفًا من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال: {هو الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} طلبًا للراحة: {والنهار مبصرًا} ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئًا لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار: {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} سماع تأمل وتدبر وقبول.ثم حكى نوعًا آخر من أباطيلهم فقال: {قالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه} وقد مر في البقرة. ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله: {هو الغني} وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات، وأيضًا إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل. وأيضًا الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضًا متولدًا من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع. ثم بالغ في البرهان فقال: {له ما في السموات وما في الأرض} وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولدًا له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك. ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال: {إن عندكم من سلطان بهذا} أي ما عندكم من حجة بهذا القول. قال في الكشاف: والباء حقها أن تتعلق بقوله: {إن عندكم} على أن يجعل القول مكانًا للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم موز. كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. أقول: كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى في أكثر منه بمعنى على.ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال: {أتقولون على الله ما لا تعلمون}. ثم أوعدهم على افترائهم فقال: {قل أن الذين يفترون} الآية. ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك: {متاع قليل} في الدنيا. ثم لابد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه. اهـ.
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ}: نهى للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن: للطعن عليه وتكذيبه، والقدح في دينه. والمقصود: التسلية له والتبشير. ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللًا لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعًا} أي: الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه، ليست لأحد من عباده، وإذا كان ذلك كله له، فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة، وهم لا يملكون من الغلبة شيئًا.وقرئ {يحزنك} من أحزنه.وقرئ {أن العزة} بفتح الهمزة على معنى، لأن العزّة لله، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العزّة جميعها لله تعالى قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] لأن كل عزّة بالله، فهي: كلها لله.ومنه قوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21]: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51].{أَلا إِنَّ للَّهِ مَن في السموات وَمَن في الأرض} ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في ملكه يتصرّف فيهم كيف يشاء، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لكونهم أشرف.وفي الآية نعي على عباد البشر، والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك، وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء} والمعنى: أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله، فليست شركاء له على الحقيقة، لأن ذلك محال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و«ما» في و: {ما يتبع} نافية وشركاء مفعول يتبع، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفًا، والأصل: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة: إنما هي: أسماء لا مسميات لها، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن يكون المذكور مفعول: {يدعون}، وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى: أيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، ويكون على هذا الوجه: {شركاء} منصوبًا ب: {يدعون}، والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم، والإزراء عليهم.ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على: {من في السموات}: أي لله من في السموات، ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؛ والمعنى: أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض.ثم زاد سبحانه في تأكيد الردّ عليهم، والدفع لأقوالهم، فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يتبعون يقينًا إنما يتبعون ظنًا، والظنّ لا يغني من الحق شيئًا: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي: يقدرون أنهم شركاء تقديرًا باطلًا، وكذبًا بحتًا، وقد تقدّمت هذه الآية في الأنعام.ثم ذكر سبحانه طرفًا من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه، فقال: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} أي: جعل لعباده الزمان منقسمًا إلى قسمين: أحدهما: مظلم وهو: الليل؛ لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب، ويريحون أنفسهم عن الكدّ والكسب.والآخر: مبصر، لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم، وتوفير معايشهم، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير، وجعله سبحانه للنهار مبصرًا مجاز. والمعنى: أنه مبصر صاحبه كقولهم: نهاره صائم، والإشارة بقوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} إلى الجعل المذكور: {لآيَاتٍ} عجيبة كثيرة: {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها، ومن غيرها مما لم يذكره، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان.قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه هُوَ الغني} هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدًا، فردّ ذلك عليهم بقوله: {سبحانه هُوَ الغني} فتنزّه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غنيّ عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة.والغنيّ المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد، وأيضًا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض، ليقوم الولد مقامه، والأزليّ القديم لا يفتقر إلى ذلك.وقد تقدّم تفسير الآية في البقرة.ثم بالغ في الردّ عليهم بما هو كالبرهان، فقال: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}، وإذا كان الكل له، وفي ملكه، فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولدًا له للمنافاة بين الملك والبنوّة والأبوّة.ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} أي: ماعندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه، و{من} في: {مّن سلطان} زائدة للتأكيد، والجار والمجرور في: {بهذا} متعلق إما بسلطان، لأنه بمعنى الحجة والبرهان، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار.ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْمَلُونَ}، ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه، ليس هو من العلم في شيء، بل من الجهل المحض.ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولًا يدلّ على أن ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح، فقال: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} أي: كل مفتر هذا شأنه، ويدخل فيه هؤلاء دخولًا أوّليًا.وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز.والمعنى: أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب.ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة، فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذابًا مؤبّدًا.فيكون: {متاع} خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفترى بافترائه ليس بفائدة يعتدّ بها، بل هو متاع يسير في الدنيا، يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله.وقال الأخفش: إن التقدير: لهم متاع في الدنيا، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر.وقال الكسائي: التقدير ذلك متاع أو هو متاع، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ.وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ}: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم، كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الله فيما يعاتبه: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعًا هُوَ السميع العليم} يسمع ما يقولون ويعلمه، فلو شاء بعزّته لانتصر منهم.وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {والنهار مُبْصِرًا} قال: منيرًا.وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا} يقول: ما عندكم سلطان بهذا. اهـ..قال صاحب المنار في الآيات السابقة: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مِنْ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ فَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَمْلُوكُونَ لَهُ {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ} لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ وَالْوَسَائِلِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ يَنْفَعُونَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ وَبِتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ رَعَايَاهُمْ إِلَّا بِوَسَائِلِ حُجَّابِهِ وَوُسَائِطِهِ وَوُزَرَائِهِ {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَيْ وَمَا هُمْ فِي اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا، أَيْ يَحْزِرُونَ حَزْرًا، أَوْ يَكْذِبُونَ كَذِبًا، أَصْلُ الْخَرَصِ: الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ مِنْ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ ذِرَاعٍ، بَلْ هُوَ كَخَرَصِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَلِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ أُطْلِقَ عَلَى لَازِمِهِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْكَذِبُ، فَالظَّنُّ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الظَّنِّ وَأَبَعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ قِيَاسِ الرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ سَمِعْتُهُ مِنْ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْجَاهِلِينَ لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْحِيدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَنْ يُلَقَّبُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْبَاشَوَاتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي وَسَائِلِهِمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَقَبْلُ وَسَاطَتَهُ وَشَفَاعَتَهُ، فَيَقِيسُونَ تَأْثِيرَ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُ تَعَالَى، عَلَى تَأْثِيرِ أَصْدِقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ وَمَعْشُوقِيهِمْ فِي قَبُولِهِمْ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَيَجْهَلُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الذَّاتِيِّ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الْعَادِلَةِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ وَأَنَّ جَمِيعَ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (17: 57) أَيْ إِنَّ أَقْرَبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِهِمْ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ دُونَهَمْ هُمْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ رَاجِينَ خَائِفِينَ، لَا كَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا يَقُومُ أَمْرُ مَلِكِهِمْ بِدُونِهِمْ، وَمَعْشُوقِيهِمُ الَّذِينَ لَا يَتِمُّ تَمَتُّعُهُمُ الشَّهْوَانِيُّ إِلَّا بِهِمْ.{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْوَقْتَ قَسَمَيْنِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِدُونِ مُسَاعِدٍ وَلَا شَفِيعٍ، بَلْ بِمَحْضِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ: أَحَدُهُمَا اللَّيْلُ جَعَلَهُ مُظْلِمًا لِأَجْلِ أَنْ تَسْكُنُوا فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْحَرَكَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي الْأَرْضِ، تَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَثَانِيهِمَا النَّهَارُ جَعَلَهُ مُضِيئًا ذَا إِبْصَارٍ لِتَنْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَتَقُومُوا بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعُمْرَانِ وَالْكَسْبِ، وَالشُّكْرِ لِلرَّبِّ، فَالْمُبْصِرُ هُنَا مُعْطَى الْإِبْصَارِ سَبَبَهُ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (17: 12) الآية. وَالثَّانِي قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (17: 59) أَيْ آيَةً مُفِيدَةً لِلْبَصِيرَةِ وَالْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (27: 13).
|